شهدت ندوة "القضية الفلسطينية ومستقبل السلام" -التي عُقدت خلال اليوم الثاني لمنتدى الجزيرة- زخمًا من الأفكار تداخل فيه ما هو سياسي وقانوني بما هو تاريخي؛ حيث قدَّم المشاركون طيفًا واسعًا من الأفكار منها ما هو معتمِد على المعايشة السياسية والمشاركة في صنع القرار الفلسطيني مثلما قدَّمه الدكتور محسن صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات الاستشارية، والدكتور عبد الله عبد الله، رئيس اللجنة السياسية في المجلس التشريعي الفلسطيني، والسيد أسامة حمدان، عضو المكتب السياسي لحركة حماس.

أو تلك الأفكار المعتمدة على الجانب القانوني والتي تصدَّت لبيانها السيدة سلمى كرمي أيوب، المحامية البريطانية، وأخيرًا تلك المعتمِدة على السرد التاريخي التي قدَّمتها السيدة سوزانا خليل، ممثلة مؤسسة جمعية كنعان لدعم الشعب الفلسطيني في فنزويلا.

وقد تقاطعت الأفكار في جانب كبير منها في حين تصادمت في جوانب أخرى، ولكن أفسحت جميعُها مساحة مشتركة عبَّر من خلالها المشاركون عن رؤاهم حول القضية الفلسطينية والتي لم تخلُ من طرح حلول لها معتمدين على الوضع الراهن على الأرض.

فمن جانبه أشار الدكتور محسن صالح، إلى الارتباط البنيوي بين القضية الفلسطينية والعالم العربي، ملمحًا إلى أن أزمة النظام العربي لها علاقة بمأساة فلسطين، وأن غياب البيئة العربية الصحية أسهم في وجود الكيان الصهيوني.

ولفت إلى أن المشروع الصهيوني يتخطى حدود فلسطين ليشكِّل تهديدًا للمنطقة العربية برمتها، كونه توسعيًّا وإحلاليًّا واستيطانيًّا وعدوانيًّا بامتياز، موضِّحًا سعي ذلك المشروع إلى إضعاف وتفكيك البيئة الاستراتيجية العربية، ومؤكدًا أن أية نهضة في المنطقة العربية تمثِّل خطرًا وجوديًّا على إسرائيل.

وألمح إلى أن الأنظمة العربية خلال حقبة الخمسينات من القرن الماضي وما تلاها أقامت شرعيتها على أساس تحرير فلسطين، موضحًا استعاضتها عن ذلك بالعمل على تثبيت أنظمتها القمعية، وبدلًا من تحرير فلسطين قتلت كرامة الإنسان العربي.

ونوَّه صالح إلى أن تلك الحالة المعكوسة جعلت من تحرير الإنسان العربي أولوية عند محاولة تحرير الأرض، مشيرًا إلى أن ثورات الربيع العربي استردَّت جزءًا من كرامة الإنسان العربي.

وأكَّد أهمية الدور العربي والإسلامي في تحرير فلسطين، معلِّلًا ذلك بأن المشروع الصهيوني هو مشروع عالمي، ومشيرًا إلى أن الوضع الراهن شديد التعقيد كونه أمام داخلٍ فلسطيني محتل أو محاصَر، وبيئة عربية مانعة أو معادية للمقاومة، مما سبَّب عدم وجود حاضنة عربية رسمية للمقاومة الفلسطينية.

وأوضح أن الشرعية الرسمية الفلسطينية ارتبطت بالشرعية الرسمية العربية، وأن معاداة الإسلام السياسي انسحبت على حركة حماس التي فازت في الانتخابات، بما جعلها غير مرحَّب بها ما أنتج حالة من صراع الشرعيات.

وتطرَّق صالح إلى وضع النظام السياسي الفلسطيني الحالي، واصفًا إياه بالهشِّ نتيجة معاناته من الأزمات والمشاكل البنيوية، ومؤكدًا عدم تحمل الحالة العربية المسؤولية عن ذلك بمفردها، عازيًا ذلك الوضع إلى وجود مشاكل فلسطينية داخلية فيما يتعلق بتحديد وتعريف الثوابت، والأولويات، والمسارات، وترتيبات البرنامج الوطني، وقدرة منظمة التحرير على استيعاب الجميع، فضلًا عن أزمة الثقة بين الفصائل الفلسطينية.

واعتبر أن البيئة الاستراتيجية المحيطة بفلسطين ما زالت في حالة سيولة وغليان نتيجة الثورات، وأنها تخضع حاليًا لإعادة التشكُّل، طارحًا في السياق ذاته عددًا من السيناريوهات أمام الحاضرين، هي: احتمالية عودة الأنظمة المستبدة أي العودة إلى ما قبل الثورات، أو تفتيت المنطقة العربية طبقًا لمشروع سايكس-بيكو جديد بناء على تقسيمات طائفية وعِرقية.

وتابع سرد السيناريوهات قائلًا: "أو تفاهم جميع التيارات الموجودة في المنطقة للخروج بصيغة توافقية، أو خروج موجة ثانية من الثورات تتعلم من أخطاء الموجة الأولى".

رؤية فتح للقضية
وظلَّ التاريخ حاضرَا بقوة خلال الندوة حيث استهل الدكتور عبد الله عبد الله، ورقته أيضَا بسرد تاريخي عن مشوار النضال الفلسطيني الذي بدأ منذ 1956، بعد احتلال إسرائيل لقطاع غزة، من خلال إنشاء حركة فتح، ومشيرا إلى استخدام خيار الكفاح المسلح في هذا الوقت، وهو ما تطلَّب شراكة مع كل من يُسهم في الكفاح.

ولفت عبد الله إلى أن حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 أحدثت نقلة نوعية في الاستراتيجية الفلسطينية، مشيرًا إلى أن تطور الدور السياسي لـفتح تطلَّب المزاوجة بين الكفاح المسلح والعمل السياسي، ومشيرًا في السياق ذاته إلى إعلان النقاط العشر في عام 1974 الذي يَعُدُّه بداية ظهور الجانب السياسي كعامل مساند، ومضيفًا: "والاعتماد على الخيار السياسي كخيار رئيسي تبلور في 1988 من خلال عوامل، أبرزها: خروج مصر من المعركة بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد في 1979".

وقال: "كما طرأ على الوضع العربي متغيران، هما: احتلال العراق للكويت، وانهيار الاتحاد السوفيتي وبروز النظام العالمي الجديد ذي القطب الواحد، وفي هذه الأجواء عُقد مؤتمر مدريد ووُقِّع اتفاق أوسلو".

وأضاف قائلًا: "وكان التركيز في المرحلة الثالثة من النضال الفلسطيني على البُعد السياسي. والمرحلة ما بعد مدريد وأوسلو شابها بعض المشاكل، منها اغتيال إسحق رابين في 1995 مما أعاد اليمين الإسرائيلي الذي ينكر حقوق الفلسطينيين".

وذكر أن تلك العوامل تداخلت مع بعضها منتجةً إعادة احتلال الأرض الفلسطينية كاملة في 2002، مشيرًا إلى العمل على الساحة الدولية لتوفير مساندة لدعم الخيار السياسي لاسيما في جوٍّ عربي غير ملائم، ومُنوِّهًا بتزامن ذلك مع ارتباط مسار إحلال عملية السلام بتوجهات الولايات المتحدة.

واستطرد: "وقد تحولت عملية لإيجاد حلٍّ للصراع العربي-الإسرائيلي وللقضية الفلسطينية إلى عملية إدارة للصراع، وإنَّ غضَّ الطرف عن الحل استخدمته إسرائيل كحصان طروادة باشرت من خلاله سياسة الإقصاء والاضطهاد والاستيطان والاستيلاء على الأراضي الفلسطينية مع وجودها على طاولة المفاوضات".

ونبَّه إلى أن قناعة رعاية المفاوضات ضمن إطار أحادي الجانب تمثله الولايات المتحدة مع السياسات الإسرائيلية القائمة لا يمكن أن يؤدي إلى حلٍّ سياسي تبلور نتيجة لتلك العوامل مجتمعة، ومن ثم كان التوجه إلى المجتمع الدولي والأمم المتحدة لانتزاع اعتراف دولي الخيار الأمثل، ومضيفًا: "وهو ما دعم موقفنا بعدم العودة إلى التفاوض بالأسلوب السابق".

وأكَّد أن إعادة ترتيب الوضع الداخلي الفلسطيني تُعد إحدى أولويات دعم المسار السياسي القائم حاليًا، وموضِّحًا أنه يأتي من خلال التأكيد على حقِّ العودة، والوقوف بجانب عرب 48 ليتحقق لهم المساواة كمواطنين في الدولة القائمة، والمصالحة بين فتح وحماس، مع استمرار المقاومة الفلسطينية، ولكن مع اختيار أساليبها التي تحكمها الظروف اللالامحيطة.

وأشار عبد الله إلى العمل على ملاحقة رموز النظام الإسرائيلي من خلال المحكمة الجنائية الدولية، وأشار إلى أن الانتخابات المقبلة تعطي مؤشرًا عن كيفية بناء القيادة السياسية الفلسطينية، ولكنها يجب أن تتيح المجال لطرف على حساب الآخر وعزله، مشدِّدًا على أهمية مبدأ المشاركة.

وأكد أهمية النوايا التي تحكم نتائج الانتخابات، ومحذِّرًا في الوقت عينه من نجاح الجهود التي تقودها إسرائيل لعزل قطاع غزة عن الضفة الغربية بحجة الوضع الإنساني. 

وجهة نظر حماس
ومن جهته قدَّم أسامة حمدان عرضًا تاريخيًّا للقضية الفلسطينية مغايًرا لما عرضه سابقه، مشيرًا إلى أن الثورات الفلسطينية بدأت بثورة البراق وحركة عز الدين القسام، ملمحًا إلى وجود صوت دائم ينادي بمفاوضة الاحتلال، منتقدًا ذلك التوجه، وموضحًا أن هذا التوجه تبلور من خلال منظمة التحرير.

وقال: "النظام السياسي الفلسطيني كجزء من النظام السياسي العربي تحكَّم فيه حزب واحد داخل منظمة التحرير، ولكن انتخابات 2006 جاءت لتؤكد وجود شريك لهذا الحزب يتفوق عليه، وهو ما لم يستطع النظام الفلسطيني تحمله ومن ثم بدأت عوامل الانشقاق في الظهور".

ولفت حمدان إلى أن فريق التسوية ما زال في انتظار الموافقة الإسرائيلية التي لن تأتي أبدًا، مضيفًا في السياق ذاته: "وهذا الفريق نشب في داخله صراع على مستقبل القيادة والسلطة بين رئيسه وبين محمد دحلان مما عرقل جهود المصالحة".

وأكَّد أن حماس تُغلِّب المصلحة الوطنية، مدلِّلًا على ذلك بمساندة مساعي حركة فتح في التوجه للأمم المتحدة لنيل الاعتراف بدولة فلسطين، على الرغم من وجود مماطلة في عملية المصالحة.

وتابع قائلًا: "وبعد تشكيل الحكومة والانتهاء من الخطوة الأولى من المصالحة، هناك من ينتظر نتيجة التحولات التي تجري في المنطقة وإلى جانب من يراهن على أن مجريات التغيير في المنطقة يمكن أن تساعده في التخلص من المصالحة أو إعادة تشكيلها كما يريد مما يساعده على إعادة نظام الحزب الواحد من جديد".

وعاد حمدان ليؤكد من جديد أن حماس متمسكة بتنفيذ المصالحة كما هي، دون النظر إلى الظروف التي تحيط بالتنفيذ، مُرجعًا إصرارها إلى تغير الظرف الدولي والإقليمي بشكل سريع ومستمر.

ونوَّه إلى أن الاعتبار الإسرائيلي له تأثيراته على المصالحة من خلال الضغوط مع وجود عامل داخلي لمنظمة التحرير الفلسطينية، مؤكدًا أهمية إخضاع المصالحة للاعتبار الوطني بشكل أساسي والتطبيق الأمين لما اتُّفق عليه بما يُنهي الانقسام.

وقال حمدان: "نرجو أن تكون هناك مؤسسة وطنية تتسع للجميع، ونتمنى أن تكون هي منظمة التحرير ولكن من خلال انتخابات تعيد تشكيلها، حيث يجب أن تنبع الشرعية من الشعب الفلسطيني، يعقب ذلك بناء المشروع الوطني التحرري".

القانون الدولي
ومن جهتها، قدَّمت سلمى كرمي عرضًا حول أهمية اللجوء إلى القانون الدولي كأداة في الصراع، مشيرة إلى أهمية الاعتماد عليه في الحالة الفلسطينية مما يسهم في تعبئة الرأي العام الدولي، ومبيِّنة نجاعة ذلك الخيار على المدى الطويل.

وتابعت قائلة: "لا أقصد أن القانون الدولي يمكنه التغيير بمفرده ولكنه يمكن أن يكون جزءًا من منظومة أوسع، وهو ما ظهر أثره في ملاحقة القادة الإسرائيليين كمجرمي حرب مما ساعد في إصدار مذكرات اعتقال بحقهم".

ولفتت إلى تأكيد محكمة العدل الدولية في 2004 على عدم شرعية الاستيطان، وأيضًا إلى اعتراف الأمم المتحدة بالدولة الفلسطينية، مؤكدة بهذه الأمثلة على أهمية دور القانون الدولي.

وأوضحت أن الاستراتيجية الحالية التي تعتمد عليها القوى الفلسطينية في استخدام القانون الدولي غير مجدية، معللة ذلك بأن التركيز على الاعتراف بالدولة الفلسطينية جاء على حساب أمور أخرى لا تقل أهمية، ومشيرة إلى أن الأمر حاليًا يبدو وكأن دولتين تتصارعان على الحدود بينهما وليس دولة تحتل أراضي أخرى.

وأشارت إلى أن اعتراف الأمم المتحدة بدولة فلسطين لم يأتِ على ذكر وضع المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل، كما همَّش حقوق اللاجئين وأيضا حق العودة.

واعتبرت كرمي أن وضع استراتيجية جامعة تأخذ في اعتبارها حقوق جميع الفلسطينيين في الداخل والخارج يمكن أن تكون جزءًا من الحل، ومبينة إمكانية إنجازه من خلال تنسيق أفضل بين جميع الأطراف.

الصراع الأيديولوجي
وبدورها تعرَّضت سوزانا خليل إلى الصراع الأيديولوجي الدائر حاليًا في الأراضي المحتلة، وتأثيره في الوضع على الأرض، مقدمة في خلال ذلك عرضًا تاريخيًّا له، وموضحة في السياق ذاته أن إسرائيل تمارس عمليات تطهير عِرقية لا تقل بشاعة عما شهدته البشرية في حقب عدَّة.

وشدَّدت على أن  المشروع الصهيوني يقوم على طرد الفلسطينيين من أراضيهم لبناء مستوطنات يسكنها اليهود، ومنوهة لأن لإسرائيل من خلال ذلك تحاول السيطرة على الجغرافيا والتاريخ في محاولة لتزويرهما لإيجاد واقع على الأرض من خلال مخططات التهويد لتبرير أحقيتها في أرض فلسطين.