عُقدت في ثاني أيام منتدى الجزيرة التاسع جلسة بعنوان "الجيوش والسياسة في العالم العربي"، تحدث فيها عدد من الباحثين في مجال الدفاع والسياسات.
توفيق هامل: الباحث في التاريخ العسكري ودراسات الدفاع بفرنسا
وفي مستهل هذه الجلسة، قدَّم توفيق هامل، الباحث في التاريخ العسكري ودراسات الدفاع بفرنسا، مقاربة تربط بين الظروف التي تعيشها الدول واحتياجاتها العسكرية والأمنية؛ حيث قال: إن الحكومات في العالم تبحث دومًا عن توظيف الموارد المالية لدعم احتياجات المؤسسة العسكرية، لكن ليس على حساب الأولويات التنموية والاجتماعية المفروضة على الدولة ومؤسساتها، على أن يتصدر هذا المطلب الأولوية في حالات الحرب.
وأضاف: في الدول العربية، كثيرًا ما نجد أن المتطلبات العسكرية تتقدم حتى في أوقات السلم، لأن احتمال ظهور نزاعات وحروب داخلية في هذه الدول، بات المتحكم في تعزيز موارد الدفاع، وتوطيد الأمن الداخلي، وهذا توجُّه لا يزال متأثرًا بأفكار الحرب الباردة، والتحولات التي طرأت على النظام الدولي.
واعتبر الباحث هامل، أن الشعوب العربية باتت تبلغ ثلاثة أضعاف عددها في سنوات الخمسينات، وباتت بحاجة لتدريب الجيوش على وسائل السيطرة على الشعوب، فأصبحنا نرى تسارع وتيرة إنشاء القوات الخاصة المنفصلة تدريجيًّا عن الجيوش النظامية التقليدية، وهذا ما تبدَّى منذ 11 سبتمبر/أيلول، وما تكرَّس من نظرة مركزية حول الإرهاب حكمت العلاقة بين الغرب والدول العربية، فأصبح الجهد الكبير مركَّزًا على تطوير قوات الشرطة من صيغتها القديمة إلى إنشاء قوات خاصة لمكافحة الشغب أكثر تأهيلًا وتدريبًا.
ولفت إلى أن كل هذا صبَّ في سبيل تعطيل الانتقال السلمي للسلطة، وهو ما أدَّى إلى هذه التحولات التي تعيشها المنطقة العربية، وضرب مثلًا بما يحدث في مصر، حيث الجيش يُعَدُّ لاعبًا أساسيًّا، كما في الجزائر، بينما في تونس أصبح الجيش أكثر استعدادًا للعب دور مستقبلي في المجال الأمني.
وحاول الباحث شرح طبيعة العلاقة بين الجيش والأنظمة المَلَكية والجمهورية، وقال: إنَّ النُّظم الملكية عملت فيها الأسر الحاكمة بإصرار على تعزيز جيوشها عن طريق زيادة إمكاناتها واشتراكها في مهام جديدة، تحسُّبًا لأي تدخل خارج الحدود.
وأشار إلى أن الحكام المستبدين ظلُّوا يقوُّون سلطاتهم، التي لم تكن لتُهدَّد في حال اعتماد إصلاحات، معتبرًا أنه من الصعب اليوم التكهُّن بمستقبل العالم العربي، لأن فترة التحولات لن تكون قصيرة، وهي صراع مستمر بين قوى التغيير ومَنْ ضده.
عائشة صديقة: زميلة برنامج تشارلز ولاس بكلية سان أنطونيو بجامعة أوكسفورد
من جانبها، قالت عائشة صديقة، زميلة برنامج تشارلز ولاس بكلية سان أنطونيو بجامعة أوكسفورد: إن الربيع العربي الذي تطرَّقت إليه جلسات المنتدى، يُبرز أن التغيير حصل في الأفراد، لكنه لم يُغيِّر الأنظمة ولم يحقق التغيير الأصلي الذي ينشده العالم العربي.
وذكرت أن الجيوش في الدول التي من المفترض أنها تتغير، واصلت تلَقِّي الدعم من الخارج، لأن هذه الدول تعاني من مشاكل سياسية هي الهيكليات، فهي مصوغة بشكل يسمح بالتوترات؛ ما يجعل العلاج لا يكون إلا بالقوة في النهاية.
وقالت: إن الجيوش في دول العالم العربي، تمثل فئة واسعة تتبع للعائلة الحاكمة في الأغلب، ومن المثير للاهتمام أن نعرف أن هذه الجيوش تحمي المَلَكيات، وتحتمي بها، لأنها مصدر الشرعية الحاكمة، فهذه الجيوش كانت دومًا في الخلفية، وعلى نحو مماثل جسَّدت شراكات بين الجيش والقطاع المدني، وضربت نموذجًا بتركيا، حيث كان معدَّل الصراع بين الجيش والمجتمع أقوى بكثير.
وفي ما يتعلق ببلادها باكستان، أشارت إلى أنه عندما بدأ الربيع العربي، كان العديد من الأصدقاء والمراقبين في باكستان يقولون: متى يصل الربيع العربي إلى هنا؟ لكنَّهم لم يعلموا أن باكستان عاشت ربيعها الخاص ببساطة، وقد تمكَّنت من تجاوز المرحلة؛ حيث بات اليقين بأن مصلحة الدولة تقتضي التصدي للقيادات العسكرية إذا اقتضى الحال.
واستطردت بأن باكستان تعتبر نفسها بعيدة عن الشرق الأوسط، لكنها تنجرُّ إلى مناقشة أوضاعه، فحكومتنا تعتبر نفسها جزءًا من هذه المنطق.
وذكرت أن الجيش الباكستاني خاض سابقًا شراكات من القوى السياسية والإعلام، لأنه ظلَّ يسيطر على الإعلام لسنوات، رغم تسويق صورة استقلاله، لكن اليوم هناك مسلَّمة وحيدة، هي أنه علينا فهم أنه لإحداث تغيير حقيقي، يجب أن ننزع الشرعية عن دور الجيش بشتى الطرق، وأن نولِّد خطابًا قويًّا حول التغييرات الاقتصادية والاجتماعية، فبدون خطاب بديل سيبقى الجيش هو مصدر القوة السائدة.
نعمان ثلجي: نائب مدير مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة ساكاريا
من جانبه، قال إسماعيل نعمان ثلجي، نائب مدير مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة ساكاريا: إن مصر تواجه ظروفًا عصيبة في العلاقة بين المدني والعسكري، خاصة منذ الانقلاب على السُّلطة؛ فالتجربة المصرية تبيَّن أنها كابوس بعد الانقلاب على الرئيس الشرعي محمد مرسي الذي انتُخب ديمقراطيًّا.
واستعرض الباحث ثلجي تجربة تركيا مع تدخلات للجيش في الحياة العامة، وتدخله المباشر في السياسة، وقال: إن الجيش كان نافذًا، حتى إنه في عام 1997، ضغط على مجلس الأمن القومي لكي يتخذ قرارًا يُنهي حكم نجم الدين أربكان، وأن يعلن استقالته.
وقال: إن تركيا، ومنذ ذاك الوقت، بدأت تعيش تجارب وتغيرات، وبوصول الرئيس أردوغان الذي ظلَّ يترشح من أجل تسريع الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، حاول الجيش التدخل في 2007 في السياسات، وبدأت مرحلة من التجاذب بين أردوغان ومؤسسة الجيش قبيل الانتخابات في تركيا.
وواصل ثلجي حديثه بأن الجيش حاول الهيمنة على المشهد، وبدأ يشرعن تدخله بأنه يدافع عن الجمهورية التركية، لكن اليوم المدنيون هم من يدافعون عن المدنية، بعد أن حظيت حكومة أردوغان بالدعم الشعبي الكبير.
وختم ثلجي بأن التجربة التركية تحكمها عوامل محلية وخارجية، فهناك حكومة شعبية لأردوغان وطموحها في ترسيخ نظام ديمقراطي، وتأثرها بالعامل الخارجي، تسهيلًا وطمأنة له لتسهيل الانضمام للاتحاد الأوروبي، وهو ما تَمثَّل في جملة الإصلاحات التي تحد من نفوذ الجيش، وإجراء استفتاء وتعديلات في الميزانيات العسكرية.
واثق الهاشمي: رئيس المجموعة العراقية للدراسات الاستراتيجية
بدوره، تحدث واثق الهاشمي، رئيس المجموعة العراقية للدراسات الاستراتيجية، عن تاريخ الجيش العراقي، وقال: إنه واحد من أقدم الجيوش؛ حيث تأسس عام 1921، واستمر إلى غاية وقوع العراق تحت الاحتلال عام 2003، كما استعرض المراحل الزمنية وأبرز التغييرات التي حدثث في مؤسسته، في سنوات 1936 ثم 1941، وصولًا إلى 2003.
واستعرض الهاشمي مراحل تطور الجيش العراقي، وقال: إنه منذ عام 1921 إلى عام 2003، عُيِّنت 58 حكومة، ظلَّ الجيش خلالها يسيطر على وزارات السيادة، فكان 23 عسكريًّا معيَّنين في عدد من الوزارات، وبعد 1958 كان جميع الوزراء من العسكريين، وبعد 2003 كانت هناك مشكلة كبيرة بسبب حلِّ الجيش العراقي، وهو رابع جيش من حيث القوة في العالم.
وبيَّن أن إلغاء ما يُسمَّى بالخدمة العسكرية في العراق، أضعف بنية الأمن الداخلي، وأدَّى إلى ضعف قدرة الجيش على فرض الاستقرار، كما أن قرار حلِّ الجيش العراقي أضعف روح المواطنة العراقية، وأظهر لغة القومية والطائفية، وهذه الحالة لم يعرفها العراق منذ تأسيسه.
وأوضح أن كل هذا أدَّى إلى حدوث اختلال في ميزان القوى في المنطقة، وخاصة بين العرب وإسرائيل، بعد أن كان له دور في الصراع، كما أن حالة من الفوضى الشاملة سمحت بتدخل قوى وأحزاب وعشائر، وظهور تناحر مذهبي وطائفي وإثني، لافتًا إلى أن الوقت غير ملائم لتدخل الجيش في الوقت الراهن في الحياة السياسية، لأننا بحاجة لإعادة بناء الدولة والمؤسسات التي أخفقنا فيها إلى اليوم، كما أننا بحاجة لبناء عقيدة عسكرية جديدة، وروح المواطنة عراقية بين جميع أبناء العراق.
محمد الأمين خليفة: الضابط المتقاعد والناشط السياسي السوداني
أمَّا محمد الأمين خليفة، الضابط المتقاعد والناشط السياسي السوداني، فقال: إنه لا يمكن لأي أُمَّة أن تفرض سطوتها دون قوة؛ حيث لا مهابة دون بناء قوة مسلحة؛ إذ إن الدولة التي لا تضع هذا في حسابها هي دولة فاشلة، فالقوة المادية والمعنوية، شرط بناء الدولة، وذلك ببناء جيش يقاتل عنها، ويؤمِّن الدولة ومصالحها ليشعر المواطنون بالطمأنينة والأمن.
وقال: إنه في الدول النامية، أصبح تدخل الجيش في السياسة أمرًا مألوفًا، فلم تخلُ دولة من دول العالم العربي من إشكالية التدخل العسكر في الدولة؛ ففي السودان، الذي يمتلك فيه الجيش تاريخًا من التدخل في السياسة؛ حيث كلما ضعف النظام المدني نادى الشعب بتدخل الجيش، وها هو يدوم اليوم 48 عامًا، كأنما حكم العسكر هو الأصل، مع سنوات قليلة من الحكم المدني منذ الاستقلال، وأيضًا باستثناء فترة سوار الذهب بعد انتهاء المرحلة الانتقالية.
وقال: إن الوضع الأمثل في السودان يتمثل في قيام قيادة مدنية تبسط إصلاحاتها، لأن رياح الثورات الشعبية التي هبَّت على العالم العربي هي لواقح، ولابد من استغلال الظرف لبثِّ رُوح جديدة تؤسَّس على أصل بناء الدولة على أسس ديمقراطية لا تدخُّل للجيش فيها.
طارق الزمر: مؤسس حزب البناء والتنمية بمصر
وفي مداخلته، بدأ طارق الزمر، مؤسس حزب البناء والتنمية بمصر، بتحية الرئيس الشرعي محمد مرسي الرافض للتنازل عن حقه في انتخابه من الشعب، ثم تساءل: كيف نتخلص من حكم الجيوش؛ لأن تدخل الجيوش في السياسة هو ما دفع الشعب إلى الخروج ضدَّها في ليبيا وسوريا واليمن ومصر؟
وأضاف: إن ثورة 25 يناير/كانون الثاني هي ثورة على حكم العسكر، بعد أن ظلَّت ترفض بشكل قاطع حكم الجنرالات، الذين اضطرُّوا أن يتخلَّوا عن الديكتاتور، للحفاظ على الديكتاتورية، لكن الثورة في الميادين، ونحن على وشك إنهاء هذا الوضع في مصر إلى غير رجعة.
وأشار إلى أنَّه علينا أن نوقن أنه من المستحيل أن يتحرَّر العالم كله من الديكتاتوريات، ثم نبقى نحن نعاني منها في بلادنا العربية؛ لهذا نحن أمام المرحلة الأخيرة لحكمهم في المنطقة.
واستعرض الزمر مختلف ما فشل فيه العسكر بعد تدخله في السياسة والحكم المدني، وقال: إن هؤلاء فشلوا وأفقروا الشعب، وأسلموهم لرجال الأعمال ينهشونهم، فضيَّعوا التعليم والإسكان والصحة والأمن القومي، الذي ضيَّعوه بعد كامب ديفيد، وهم يواصلون اليوم تمزيق المجتمع المصري، وغرس الفتنة الطائفية.
وأضاف: علينا "أن نؤكِّد أن حكم العسكر استقرَّ 60 عامًا بالطوارئ، وظلَّ يبرِّرها بالصراع الإسرائيلي الذي سلَّموا له، ثم مكافحة الإرهاب ومصادرة كل شيء، ومواصلة الانتهاكات والتعذيب الذي يُورَّث من حكومة لأخرى، في كل سجون ومقار الأمن".
وقال: إننا نحتاج إلى فورة أخرى في مفاهيم الثورة المصرية، فنحن لم نخرج عن تقاليد وأهداف ثورة يناير، لكننا نحتاج إلى ثورة أخرى حتى نجدد المفاهيم، كما يجب إنهاء ثنائية العسكر والإخوان، وثنائية الإسلامي والليبرالي، إلى ثنائية الثورة في مواجهة الاستبداد، وذلك بعد خلق المصالحة المجتمعية التي هي المسمار الأخير في نعش الانقلاب، وطمأنة كل الأطراف والمؤسسات التي ورَّطها الجنرالات، وتأسيس البديل الوطني الجاهز لبناء الدولة، والتعامل مع العالم في هذه الظروف بالغة التعقيد، واستيعاب التغيرات في المنطقة بشكل صحيح.